الدولة المغربية.. بين مطرقة تأهيل البنية التحتية وسندان العدالة الاجتماعية

محمد لحميسة
(طالب باحث في علم الاجتماع)
تواجهنا الدولة أول ما تفعل كأدلوجة بتعبير عبدالله العروي، فكم منا بادر بالتساؤل عن شيء فقيل له بأنه أمر من الدولة، إنها بتعبير باكونين التجريد الميتافيزيقي، الروحي، القضائي للوطن، وهو بذلك يكون قد أجاب عن سؤال علاقة الدولة بالوطن، رغم أن مشروعه هو اللا دولة، او ما يسمى بالاناركية .
عندما نفكر منهجيا في الدولة أو نطرح الأسئلة النظرية حولها، فإننا نكاد نكون محصورين في ثلاث نماذج ممكنة للتساؤل .
ما أصل وهدف الدولة ؟
ما مستقبل تطور الدولة ؟
ما وظائف الدولة ووسائلها ؟
وإذا حاولنا الإجابة عن السؤال الأخير المتعلق بالبعد الوظيفي للدولة، فإننا نحاصر مرة أخرى بخطاطتين متعارضتين إلى حد كبير ، الخطاطة الأولى تصرح بأن الدولة في خدمة المجتمع، إذ أنها في الأول والأخير كيان مصطنع وبناء ثقافي واجتماعي أبدعه الأفراد من أجل ضرورات حيوية أولها وآخرها الحرية، وهذه الدولة عليها أن تُنظم التعاون وتمهد الطريق للسعي والكسب وطلب العلم، تحافظ على الأمن في الداخل والسلم في الخارج …الخ، الخلاصة أن هذا الطرح يجعل من الدولة في خدمة مواطنيها وانطلاقا من هذه الوظيفة تكتسب الدولة قيمتها إذا انغمست في المجتمع وخدمت اغراض الفرد العاقل .
الخطاطة الثانية والمناوئة للأولى تجعل الدولة بعيدة ومتعالية عن كل وظيفة أو مصلحة ، فهيجل -وهو أحد المعبرين عن هذا الطرح الى جانب ميكيافيلي- يرى أن الدولة ضرورة موضوعية وقوة متعالية ليست مبنية على مصلحة الفرد، ويفنذ هيجل طرح الخطاطة الأولى من خلال مفهوم التضحية، ويقول عنها بأنها لحساب خاطئ، اذ عندما نربط الدولة بوظيفة الأمن وحماية حياة مواطنيها وأملاكهم فإننا نقع في التناقض لما نطالب المواطن بالتضحية من أجل هذه الدولة، فالأمن لا يدرك بإتلاف ما يجب تأمينه، وبهذا تكون الدولة غاية في ذاتها غير مطالبة بشيء تجاه مواطنيها .
هذا الطرح الهيجلي المتعالي كان يصلح لسياق تاريخي معين، ربما زمن الامبراطوريات الكبرى، وزمن دول الحق الالهي، ومنطق أنا الدولة والدولة أنا كما نطق بها لويس الرابع عشر، التحولات السياسية والاجتماعية للعالم منذ ذلك الوقت كثيرة جدا ، ولم تعد الدولة غاية في ذاتها كما أنه من العار تقزيمها الى وسيلة، انها في منزلة بين المنزلتين، وهي في مكانها هذا البرزخي فإن لها مهام موضوعية وأخلاقية لا يجب ان تتنصل منها، اذ لها من الوسائل المادية والرمزية ما يعينها على تأدية مهامها على أكمل وجه، مثل أن تسعى بشكل مستمر للتحديث ولتجويد سبل العيش والكسب الكريم وتوسيع هامش الحريات والدمقرطة بما ينعكس بشكل ايجابي ومباشر على المواطنين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية .
الدولة المغربية وهي النموذج المفترض استحضاره ونحن نتحدث نظريا عن الدولة، مطالبة بالتحديث والتجويد، وهي مطالب لا يفتأ الناس يرفعونها في كل مناسبة احتجاجية، رفعت في 20 فبراير، رفعت في الريف ، في جرادة…
الحقيقة أن هناك تغيير يقع ، لكن مأساويته تكمن في أنه لا ينعكس ايجابا على معيشة القاعدة الكبرى من الجماهير.
من يزور المغرب سيندهش من البنية التحتية والقوة المعمارية والتجهيزية للمدن الكبرى (طنجة ، الرباط، الدارالبيضاء، مراكش، أكادير) وسيندهش أكثر إذا ذهبت به أقدامه إلى ضواحي هذه المدن أو إلى المدن الهامشية ليرى واقعا مختلفا وتراجيديا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فما اعتادت السلطة الكولونيالية بنهجه من سياسات للمغرب النافع وغير النافع لازال قائم بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال .
صحيح أن الدولة لا تملك عصا هاري بوتر، وأن طريق الاصلاح في دولة واقعها السياسي جد معقد ومنخور بالتداخل والصراع المعلن والخفي بين قوى المخزن وقوى الاحزاب وهذا ما يخبرنا به الانثربولوجي الامريكي جون واتربوري في مؤلف الملكية والنخبة السياسية ، زد على هذا ما يسمى في أدبيات الاتحاد الاشتراكي في مرحلة من المراحل بجيوب المقاومة، وهي القوى التي تقاوم التغيير الذي يروم الإصلاح والتي لها مصالح في بقاء الأمور على حالها، وهي قوى سمتها حركة 20 فبراير بالدولة العميقة.
الواقعية اليوم تتطلب منا الاعتراف بأننا أمام واقع سياسي مركب، ينضاف إليه تطورات إقليمية-سياسية ديناميكية تتغير بين اللحظة واللحظة التي تليها، وخطاب الشيطنة خطاب ارتكاسي لا يُسمن ولا يغني من جوع ونحن بلساننا الدارج اعتدنا القول “لي قال العصيدة باردة يدير فيها يديه ” وونحن لا ننزع نية ورغبة الإصلاح عن أحد ، وهذا هو رهان اللحظة، بالبند العريض الكل يُطالب والكل يدَّعي بأن ما يقوم به إصلاح، غير أننا وعندما نتعامل بشكل فلسفي مع هذا المفهوم، فإننا سنختلف حول تلاوين ومكونات وخصائص هذا الاصلاح الذي يزعمه الكل ويطالب به الكل حتى تظن في لحظة أننا في محطة ملائكة الكل فيها مظلوم .
التركيز على الصورة الخارجية للدولة من خلال منشآت ضخمة تغدق عليها الميزانية العامة مبالغ باهضة في ظل واقع تعليمي، صحي، اجتماعي، أقل ما يقال عنه أنه دون المستوى، والأرقام في هذا الصدد لا تجامل أحد، ومن قال لا ليراجع أرقام وإحصاءات المنظمات الدولية حول وضعية المجالات الاجتماعية في المغرب .
قصة حاكم الصين الذي آمر ببناء سور الصين العظيم أشهر من نار على علم وأبلغ ماتكون عن الشرح، يحكى أن الهدف من بناء السور كان هو إيقاف العدو وتقليل الهجمات التي تتعرض لها الصين باستمرار، لكن ما وقع هو أن عدد الهجمات تتضاعف، وهذا ما جر الحاكم الى فتح تحقيق حول ما يقع، فوجد أن الاعداء كانوا يرشون حراس الباب ويدخلون فيهاجمون، تساءل عن تفاصيل الخيانة فتوصل الى ان الحراس يعانون الفقر المدقع، وهناك نطق جملته الشهيرة التي تلخص واقع الحال وتعطي درس لكل واضع للسياسات العمومية ” لقد بنينا الحجر ونسينا البشر ” .
في المغرب كذلك نفعل، نبني الحجر (قطار فائق السرعة، برج محمد السادس …) ونتجاهل البشر (تضييق أفاق خريجي الجامعات،التعاقد في التعليم، ضرب القدرة الشرائية بارتفاع الاسعار …)
لماركس مقولة لا زالت صالحة يقول فيها ، التاريخ يعاد مرتين ، مرة اولى كمأساة ومرة ثانية كمهزلة ، المأساة وقعت عند الصينيين، ولا أريد لبلدي أن تقع به نسخة المهزلة .