أخبارافلام وثائقيةالأفقجريدة Ouma pressقناة Ouma pressمقالات

سد أيت زياد .. القضية والوثائقي

حكاية الألم وأشياء أخرى


. حمزة الفضيل

قضية أيت زياد، هي أولا قضية إنسانية، ومَظْلمةٌ خالصة، والكتابة حولها يَصعُب الفصل فيها بين الذاتي والموضوعي، وأي محاولة للفصل تبوء لا محالة بالفشل. مرتْ ثلاثة أسابيع على زيارتي للمنطقة، وعلى غير العادة، لم أبتعد يوما عن زمن الزيارة إلا وزاد اقترابي من القضية والتصاقي بها، الزمن يُبعدني والبَونُ شاسع بمقياس الكيلومترات، لكن مشاعري مفعمة بها.

هذه المفارقة تغدو مفهومة في جميع القضايا التي اصطبغت بصبغة إنسانية، والصحافي لا سبيل له في النهاية إلا أن يكون إنسانا قبل كل شيء، مادة مخلوطة بعاطفة، وإذا كان الحياد شرطا للعمل الصحفي، فإن لهذا الحياد سقفا يقف عنده، ويصير الانتصار للقضايا الإنسانية واجبا بمنطق العقل ومنطق الشرع ومنطق الحقيقة.

وإذا كانت عورة الصحفي هي الكشف عن أهوائه وميولاته في مادته الصحفية، فأنا هنا أعترف بالعجز عن ستر تلك العورة، بل أبوح عَلَنا بِميلي المُتزايد واصطفافي المكشوف إلى جانب المتضررين، بشرا كانوا أم شجرا، يابسة وماءً.

بدأت القصة من لحظة عِلمنا ونحن جُلوس بمقر “بي بي إم تيفي” بأن تنسيقيةً ما تحمِل قضيةً ما، تعتزم عقد ندوة صحفية سيحتضنها مقر نادي الصحافة بالرباط، مدّني بعدها السيد مدير النشر شعيب بغادى برابط يُحيل إلى مجموعة على الفيسبوك تحت اسم “تنسيقية أيت زياد للسكان المتضررين”، من أجل الإعداد الجيد للموضوع قبل انعقاد الندوة.

وكما كان مُبرمجا، حضرنا الندوة وكنا أول الحاضرين، استمعنا لمداخلات ممثلي التنسيقية، وتابعنا عرضهم المُفصل، وبدورنا استفسرنا عن بعض النقاط، وسجلنا أهم الملاحظات، وبعدها حصلنا على تصريحات مصورة، وتفرق الجَمْعُ وانصرفنا وفي حوزتنا مادة إعلامية لا بأس بها.

إلى هذا الحد، أعترف أنني كنت أشتغل على الموضوع كخبر مثله مثل أي خبر، وأجعل بيني وبينه مسافة تفصلني عنه، مُتجرّدا من أي تعاطف نحوه أو انحياز. يُقال أن للصحفي الجيد قدرة كبيرة على استشراف مآلات الأمور واستبصار الطريق، وقد استطعت أن أتحقق من هذه القاعدة أثناء عملي مع الأستاذ القدير شعيب بغادى، فبعد انتهائنا من مهمة تغطية الندوة، دخل علينا، وبدون مقدمات، أخبرنا بجدية بالغة وبِلُغة واثقة : سنُنجزُ وثائقيا حول سد أيت زياد، استعدوا. ولولا تلك الجدية التي تتضح من عينيه لاعتبرت الأمر مجرد مزحة.

اندهشتُ في البداية، وتساءلتُ بداخلي كيف ومتى اختمرتْ هذه الفكرة في رأس الأستاذ، لم يتأخر عني الجواب، إنها الجذبة التي تتلبس الصحفي المبدع على حين غرّة، وفي لحظة خاطفة قد يقرأ الوضع وتتضح له الآفاق وتنكشف أمام عينيه الأسرار، مثل متصوفٍ مُجرِّب ومجَرَّب، خاض الحياة طولا وعرضا. حَمَلْنا رَحْلَنا، وقصدنا -تحت رعاية المولى- مدينة مراكش، حيث سنلتقي بأول وجه من وجوه أيت زياد، شاب في العشرينات، يُدعى الحَبيب، حجمه الصغير لا يوحي إطلاقا بشراسته التي يُبديها في مرافعاته حول القضية كما سيتبين لنا لاحقا. دَلَّنا الحبيب على الطريق، وكان نِعم المرشد، ونِعم الرفيق.

أيت زياد منطقة شاسعة مؤلفة من عدد من الدواوير، تبعدُ عن مدينة أيت اورير بحوالي 15 كلم، وهي جنة على مد البصر، لا بالمعنى المجازي، بل جنة بكل ما تحمله اللفظة من حقيقة و واقعية، أرض خصبة ومعطاءة، تزيدها أشجار الزيتون جمالا وجلالا، يسكنها أناس طيبون كُرماء، في غاية البساطة والسَّماحة، وذنبهم الوحيد أنهم ظلّوا أوفياء لأراضيهم.

بعد أن مَنَّ الله عليهم بتلك الأرض البَتول، نزل عليهم خبر قرار الدولة بإنشاء سَد فوقها كالصاعقة، وهو القرار الذي يعني نزع أراضيهم وما عليها من ممتلكات، وحيازة مساكنهم، لصالح المنفعة العامة، الأمر الذي سيروح ضحيته 14 دوارا. الساكنة تقبلتْ القرار على مَضَضْ، واستسلمت له بقلب ينفطر ألما، وروح ملؤها الأسى على أرض وَرِثوها، لا يَعرفون سواها، ستُنزعُ أمام أنظارهم، وليس بيدهم حيلة. هذا القدر الطارئ، أتى محمولا على سُحُبِ “المصلحة العامة” ، وهو الأمر الذي لم تعترض عليه الساكنة، رُغم الجرح الغائر، والقلب الدّامي، لكنها في المقابل تستغرب للتعويضات الهزيلة التي عُرِضت عليها، وتُطالب بألا تُستثنى من هذه المصلحة العامة.

تؤكد تنسيقية المتضررين أن القانون المنظم لنزع الملكية في المغرب، لا يكفل حقوقهم، وتعتبر أن التعامل مع القضية بمقاربة قانونية يعني “تشريد الساكنة وتفقيرها”، وتتساءل “كيف لتعويضات ببضعة دريهمات للمتر المربع تُمنح بالتقسيط أن تُمكن الفلاح البسيط من أن يبدأ حياته من جديد في مكان آخر بعيدا عن أرضه” هذه المرارة التي يعبرون بها عن مأساتهم كان علينا -ونحن بصدد توثيقها- أن ننقلها إلى المشاهد بشكل يُحافظ على أثرها وواقعيتها، وفي ذات الوقت الانضباط بقواعد إنتاج الفيلم الوثائقي، وهو التحدي الذي غامرنا وخضناه باستماتة.

وفي الوقت الذي أُدَبّج فيه هذه السطور، بلغني أن أشغال بناء السد تسير بوثيرة أسرع منذ زيارتنا للمنطقة، والساكنة تعيش على وقع الهلع من التفجيرات المتتالية التي تقوم بها الشركة لِردم الصخور واختراق الممرات.

أتذكر جيدا كيف كان الحبيب طيلة أيام التورناج يحاول أن يجعلنا جزءا من القضية، وليس فقط مجرد صحافيين ننظر إلى الأمر بمنظار وظيفي محض، وقد نجح إلى حد بعيد في ذلك. وجه الحبيب الذي اخترقته التجاعيد، وجوانب رأسه التي تسلل إليها الشيب منذ بداية ترافعه رفقة أهل المنطقة، يحْكيان مدى الألم والاستياء، الذي عَبر عنه ببلاغة أحد الفلاحين وهو في عقده الثامن قائلا “نزع أرضي يعني بالنسبة لي الموت”.

أقف عند هذا الحد من الحكي، وأدعوكم لمتابعة تفاصيل القصة وحيثياتها في الفيلم الوثائقي الذي أنتجته مؤسسة BBM.média، وقام بإخراجه الإعلامي المقتدر شعيب بغادى، سيُبث في القريب العاجل بموقع BBMtv، عَلّه يكون مساهمة حقيقية لتسليط الضوء على مغرب الهامش، حيث الوطن المنسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى