
. عبد الواحد درويش
لم أزر محطة النقل الطرقي “لقامرة” بالعاصمة الرباط منذ زمن بعيد، حتى قصدتها مضطرا منذ أيام وذلك لاستلام “كوليا” مرسلة لي من “تمازيرت” عبر حافلة “بوغافر” التي تتنقل بين تنغير والرباط.
لا أعرف لماذا ظل الشكل الهندسي لهذه المحطة الطرقية يثير دوما انتباهي كلما مررت بالقرب منها.
ذلك اليوم، وأنا ألج هذه المحطة عبر أبواب مصنوعة من قضبان فولاذية، انتابني إحساس رهيب، فتذكرت لحظة دخولي لأول مرة خيمة “سيرك عمار” لمشاهدة عرض قدم بمدينة تنغير ذات سنة من سنوات أواسط سبعينيات القرن الماضي.
رغم كل مظاهر الحداثة والنمو التي تعيشها العديد من مرافق العاصمة، وحدها محطة “لقامرة” من لازالت تصر على التمسك بأبشع صنوف الفوضى والبشاعة والعنف التي ظلت لصيقة بها لعقود.
في أرجاء ساحتها الدائرية، تتواجد عشرات المكاتب لشركات النقل الطرقي يقف داخلها مستخدمون يطلون من خلف نوافذ حديدية بنظرات جاحضة ويبدون كمعتقلين في زنازن سجن مظلم.
في هذا الفضاء، يختلط صراخ “لكورتيات” بضجيج “كرسونات” يتخاطفون الزبائن كما تصطاد الضباع فرائسها. لم أكد أستجلي طريقي وسط تلك الفوضى العارمة، في عز يوم صيفي حار، حتى اندلعت مشاجرة بين شابين مفتولي العضلات اتضح فيما بعد أنهما لصين خطف أحدهما “صامصونيط” من سيدة بدا من يديها المزينتين بالحناء أنها عادت لتوها من حفل قد يكون عرسا من الأعراس التي تكثر في هذه الفترة من السنة. أشفقت لحال رجل أمن منهك يقترب من سن التقاعد وهو يحاول مجهدا أن يتظاهر بمطاردة اللصين، فقررت أن أختلي بنفسي في مقهى محادية لحديقة بئيسة في انتظار وصول الحافلة. كان النادل يقاسي الأمرين: تارة لتلبية طلبات الزبناء، وتارة أخرى لمطاردة “الشمكارا” الذين يختبؤون وراء السواري لخطف ما تبقى من مأكولات أو مشروبات خلفها المسافرون على طاولات مهترئة ومتسخة.
هنا بمحطة “لقامرة” بمركز العاصمة الرباط، تتقاذف يوميا مئات الحافلات القادمة من مختلف جهات البلاد. تنقسم المحطة إلى قسمين: قسم يميني خاص بالحافلات المتجهة لشمال البلاد، وقسم آخر خاص بالحافلات المتجهة للجنوب.
لا شيء تغير في هذا المكان إطلاقا. فالزمن هنا يبدو أنه توقف منذ أمد بعيد، تماما كما توقفت عن الدوران عقارب ساعة المحطة التي يكاد لا ينتبه إليها أحد.
في عز صيف حار، كانت روائح كريهة تنبعث من “المرافق الصحية” لتختلط بروائح أسماك مقلية ودجاج وكفتة تطلقها مدخنات المطاعم المحادية للمحطة.
بعدما تمكنت من اختراق زحمة عارمة، ولجت أخيرا الساحة المخصصة للحافلات، بعد أداء ثمن فاتورة قيل لي أنها “صنك”.
اتخذت لنفسي مكانا فوق حائط قصير أترقب هذا الغاب. كلما فتح الباب الرئيسي، تدخل الحافلات بسرعة جنونية، فيطلق سائقوها منبهات تصدر أصوات مرعبة شبيهة بأصوات ديناصورات من الزمن الجوراسيكي.
في محطة “لقامرة”، تختلط مظاهر الحداثة المزيفة بمخلفات البداوة الموروثة عن زمن بائد. فهذا شاب يسوق عربة يجرها بغل ويتحدث في هاتفه النقال، وتلك شابة لابسة بيجاما وردية وضعت على وجهها مكياجا مثيرا، بمجرد أن نزلت من إحدى الحافلات القادمة من مدينة طنجة في إتجاه خريبكة، حتى هرولت مسرعة خلف السور القصير الذي يفصل بين الساحتين الشمالية والجنوبية فبدأت تتقيأ بشكل هستيري. ويبدو من أصوات الألم النابع من أحشاءها أن الأمر يتعلق بمعاناة من دوران فضيع، ولربما من شيء آخر. بالقرب من هذا المكان، كانت إمرأة عجوز، يبدو من ملامحها أنها من منطقة “تافيلالت”، جالسة تتكئ على سارية وتقاوم النعاس، وبجوارها ظل شاب أسمر يمسك بمروحة مصنوعة من سعف النخيل يطرد عنها جحافل الذباب المنتشرة بكثافة.
وبينما كان المؤذن ينادي لصلاة الظهر، كانت جماعة من الملتحين بملابسهم الأفغانية الداكنة اللون يتجهون صوب مكان مخصص للصلاة. في تلك الأثناء، كان مسؤول إحدى شركات النقل يضع يده في جيب أحد المسؤولين بإدارة المحطة شيئا أثار حفيضة أحد “الكورتيات” المحسوبين على شركة منافسة، والذي يبدو من ملامحه أنه صاحب سوابق، فاندلعت على إثر ذلك مشاجرة صاخبة لا يسمع فيها سوى دعوات من بعض المسافرين للمتشاجران بأن يتقوا الله ويلعنوا الشيطان، خاصة ونحن في “أيام لعواشر”..
وأنا أنتظر وسط هذه البؤرة المتوثرة، افتتحت أبواب هذه الحديقة الجوراسيكية لتدخل حافلة “بوغافر” ويحاول السائق أن يرسو بها في مكان ما. أسرع السائق بفتح أبوابها للزبناء، فهرع الجميع لاتخاذ أماكنهم داخل الحافلة كما لو كانوا لاجئين هاربين من حرب طاحنة وكلف السائق بإنقاذهم ونقلهم لمناطق آمنة.
تسلمت من السائق “لكوليا” بعدما أديت ما يقتضيه الأمر من “واجب الخدمة”، فغادرت هذا المكان حامدا الله على نعمة الخروج منه بسلام.
على بعد أقل من كيلومتر من هذه البؤرة الملتهبة، تنتصب في المدخل الغربي للعاصمة بناية حديثة تنعش نظرات الزوار بشكلها الهندسي الرائع. إنها محطة النقل الطرقي الجديدة التي ستحل قريبا محل محطة “لقامرة”. بناية مجهزة بأحدث التجهيزات العصرية وقيل أنها الأكبر من نوعها بإفريقيا.
راودني سؤال:
– هل يكفي أن نشيد بنايات عصرية ونجهزها بأحدث التجهيزات لكي نعتبر أن البلاد قد انتقلت فعلا من عصر البداوة إلى عصر الحداثة ؟.. 🤔